تسعى كل من تركيا وفرنسا إلى تقليص حدة التوتر الذي تصاعد في العلاقات بينهما على مدار العامين الماضيين، وهو ما عكسه اللقاء الذي عقد بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والفرنسي ايمانويل ماكرون على هامش قمة حلف الناتو في بروكسل، في 14 يونيو الجاري، وقبله الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو إلى فرنسا يومى 6 و7 من الشهر نفسه، حيث التقى نظيره الفرنسي جان ايف لودريان لبحث العلاقات الثنائية وعدد من الملفات الإقليمية والدولية محل الخلاف.
تحركات متبادلة:
بدأ التمهيد للتهدئة بين أنقرة وباريس منذ عدة أشهر، على نحو يبدو جلياً في ما ذكره أوغلو، في 7 يناير الماضي، من أن الدولتين تعملان على خارطة طريق لتطبيع العلاقات، وأن المحادثات تسير بشكل طيب، لافتاً إلى أنه هاتف نظيره الفرنسي بهذا الشأن، كما التقى الوزيران على هامش قمة وزراء خارجية دول حلف الناتو التي عُقدت خلال الفترة من 22 إلى 24 مارس من العام الجاري، علماً بأنه قد سبقها محادثة عبر "الفيديو كونفرنس" بين رئيسى البلدين في مطلع الشهر نفسه.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن هناك العديد من نقاط التماس بين البلدين التي دفعت لتأجيج الخلافات بينهما، على رأسها سياساتهما تجاه سوريا وليبيا، والنزاع بين تركيا واليونان على موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط، والدعم الفرنسي العسكري لأثينا في مواجهة أنقرة، والمواجهة بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني قره باغ، فضلاً عن ملفات أخرى تتعلق بالتوغل التركي في القارة الأفريقية ومحاولة تحييد الدور الفرنسي.
واللافت هنا، أن ذلك كله يتوازى مع مساعي أنقرة لزيادة دورها في لبنان، حيث تتحسب باريس من ذلك، على نحو دفعها لتعزيز دورها في المقابل، خاصة عبر المساعدات الإنسانية، والانخراط في منافسة بين الطرفين على تعظيم الاستفادة من مرفأ طرابلس، خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، وذلك عبر تعزيز الخطوط الملاحية بين المرفأ وموانئ كل منهما، وذلك كمنصة رئيسية لدعم حركة التبادل التجاري بدول شرق البحر المتوسط.
مصالح اقتصادية:
لكن في مقابل اتساع نطاق الخلافات بين البلدين، كانت هناك مصالح مشتركة تدفعهما إلى التحرك من أجل احتوء تلك الخلافات، والبدء في إعادة العلاقات لطبيعتها، خاصة وأن المصالح الاقتصادية والتجارية بين البلدين تستدعي عدم القطيعة، ويدلل على ذلك حجم التبادل التجاري الذي لم يتأثر بشكل كبير نتيجة تدهور العلاقات بينهما، وهو ما يوضحه الجدول التالي:
حجم التبادل التجاري بين تركيا وفرنسا خلال الفترة 2016/2020 (بالمليار دولار)
السنة | 2016 | 2017 | 2018 | 2019 | 2020 |
الواردات التركية من فرنسا | 7.36 | 8.07 | 7.4 | 6.76 | 6.98 |
الصادرات التركية لفرنسا | 6.02 | 6.58 | 7.29 | 7.95 | 7.2 |
إجمالــــي | 13.38 | 14.65 | 14.7 | 14.7 | 14.19 |
Source: International Trade Center
يكشف الجدول السابق أن الميزان التجاري كان يصب لصالح فرنسا، ولكن منذ عام 2018 بدأ الفارق يتقلص، مما يجعل هناك توازناً في العلاقات التجارية بينهما، وبالتالي تراجع العلاقات التجارية بينهما سيضر كلا البلدين على حد سواء، بما يعني، وفقاً لاتجاهات عديدة، أنه لا يمكن استخدام التجارة كورقة ضغط لأى منهما ضد الآخر، كما يوضح الجدول أن تنامي حجم التجارة بينهما يسير بوتيرة بطيئة، في دلالة على استقرار العلاقات التجارية بينهما، إلا أنه تراجع بشكل طفيف في عام 2020، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء جائحة كورونا بالأساس التي أثرت على التجارة العالمية.
وبالنسبة لحجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في كلا البلدين، كشفت بيانات وزارة الخارجية التركية أن الاستثمارات الفرنسية قد بلغت خلال الفترة 2002/2017 نحو 7 مليار دولار، بينما بلغت الاستثمارات التركية خلال الفترة نفسها نحو 217 مليون دولار.
فضلاً عن ذلك، يُعد ملف اللاجئين أحد الملفات المهمة التي تركز عليها فرنسا، وهو الملف الذي توظفه أنقرة للضغط على الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع باريس أكثر من مرة للتنديد بما أطلقت عليه الابتزاز التركي من خلال ذلك الملف، وهو ما أثاره وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في 3 مارس من العام الجاري، وذلك بالرغم من أن تلك الفترة كانت تشهد محاولات للتفاهم بين البلدين، إلا أن ذلك الملف له وضعه الخاص بالنسبة للدول الأوروبية، وبالتالي تحقيق تقدم بشأنه من خلال باريس، قد يؤدي لتقليص حدة الخلافات بين فرنسا وتركيا، وذلك في حالة توقف أنقرة عن فتح حدودها مع دول الجوار الأوروبي للاجئين لدخول القارة الأوروبية.
الدور الأمريكي:
ربما يكون التوجه الأمريكي الحالي لتقليص حدة التوتر مع تركيا متغيراً تضعه فرنسا في الاعتبار في تقييمها لاتجاهات علاقاتها مع الأخيرة، خاصة وأنه منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض حاول إعادة العلاقات الطبيعية مع الحلفاء الأوروبيين، وذلك في مواجهة التهديدات المشتركة لمصالح الطرفين حول العالم، وسوف ينعكس ذلك بدوره في اللقاء الذي سيعقد بين بايدن وأردوغان على هامش قمة الناتو في 14 يونيو الجاري، الذي يتوازى مع إطلاق تصريحات متبادلة تشير إلى إحداث اختراق في جدار الأزمة بينهما. ولعل توقيت هذه التحركات يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن مساحة التقارب تتزايد بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بعد مرحلة التوتر التي سادت خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما قد يفرض ضغوطاً أكبر على تركيا، التي كانت تسعى إلى استغلال الخلافات الأمريكية- الأوروبية لتوسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمامها في التعامل مع القضايا التي تحظى باهتمام مشترك. وربما يكون هذا التقارب أحد الأسباب التي دفعتها إلى مواصلة مساعي تقليص حدة التوتر مع فرنسا خلال الفترة الأخيرة.
ختاماً، تسعى تركيا لرأب الصدع في علاقاتها مع فرنسا، وإن كان ذلك يتطلب العديد من الخطوات لبناء الثقة معها بهدف الوصول لحد أدنى من التفاهم الذي يحول دون تأجيج التوتر معها، في ظل وجود تقاطعات في العديد من الملفات، ووجود مصالح مشتركة لا ترغب الدولتان في التأثير عليها، الأمر الذي تبني عليه أنقرة تحركها بهدف الوصول لصيغة جديدة في إدارة علاقاتها الدولية، خاصة وأن الشريك الفرنسي هو محور هام في الوصول لتلك الصيغة، لارتباطه بالاتحاد الأوروبي الحليف الأول للولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن حلف الناتو الذي تتمسك تركيا بعضويته، والنفوذ الفرنسي في شرق المتوسط والقارة الأفريقية، وهى المناطق التي تحظى باهتمام خاص من جانب أنقرة.